سورة الواقعة - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الواقعة)


        


{إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)} [الواقعة: 56/ 1- 12].
إذا حدثت القيامة، والواقعة اسم من أسماء القيامة، كالصّاخّة والآزفة والطّامّة.
وهذه كلها أسماء تقتضي تعظيمها وتشنيع أمرها، ليس لوقوعها صارف ولا دافع، ولا بد من أن تكون، وليس لها تكذيب ولا رد. وكلمة {كاذِبَةٌ} إما مصدر كالعاقبة والعافية وخائنة الأعين، أي ليس لها تكذيب ولا ردّ، وهذا قول قتادة والحسن، وإما أن تكون صفة لمقدّر، كأنه تعالى قال: ليس لوقعتها حال كاذبة.
- وهي خافضة أقواما كانوا في الدنيا مرفوعين، فتجعلهم في الجحيم، وهم الكفرة والفسقة، ورافعة أقواما كانوا في الدنيا مغمورين، فتجعلهم في الجنة، وهم المؤمنون. فقوله: {خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3)} خبر لمبتدأ، أي هي خافضة رافعة.
- إذا زلزلت وحرّكت الأرض بعنف تحريكا شديدا، حتى ينهدم كل ما عليها من بناء وجبال.
- وفتّتت الجبال فتّا، وصارت غبارا متفرّقا منتشرا أو شائعا في الهواء، كالهباء الذي يطير في النار. وهذا يدلّ على دكّ الجبال وزوالها عن أماكنها يوم القيامة.
- وأصبحتم يوم القيامة من قسمين إلى ثلاثة أصناف: أهل اليمين أصحاب الجنة، وأهل الشمال أهل النار، والسابقون إلى الإيمان هم السابقون إلى الجنة والرحمة، وهم الأنبياء والرّسل والصّديقون والشهداء.
فأصحاب اليمين: هم الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم، ويؤخذون إلى الجنة، فما أحسن حالهم وصفتهم وأكمل سعادتهم! وقوله: {ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ} لتفخيم شأنهم وتعظيم أمرهم. وقوله: {فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ} مبتدأ، والفاء تدلّ على التفسير، وقوله: {ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ} ما: مبتدأ ثان، وأصحاب الميمنة: خبر: ما، والجملة خبر المبتدأ الأول.
وأصحاب الشمال: هم الذين يتناولون كتبهم بشمائلهم، ويساقون إلى النار، فما أسوأ حالهم وأتعسهم!! والسابقون من كل أمة إلى الإيمان والطاعة والجهاد وأعمال البر، وهم: الأنبياء والرّسل عليهم السّلام، والشهداء والصّديقون، والقضاة العدول، ونحوهم، إنهم السابقون إلى الجنة والرحمة، وهم المقرّبون إلى جزيل ثواب اللّه وعظيم كرامته والمقرّبون من اللّه تعالى في جنّة عدن، والمقيمون إلى الأبد في جنات النعيم.
وقوله: {أُولئِكَ} تدلّ على علو مكانتهم. وقوله: {وَالسَّابِقُونَ} مبتدأ، و{وَالسَّابِقُونَ} الثاني خبر على مذهب سيبويه، وجملة {أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)} مبتدأ وخبر، استئناف بياني.
وقال بعض النّحويين: {وَالسَّابِقُونَ} الثاني: نعت للأول، وجملة {أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)} على هذا القول: في موضع الخبر.
وهذه الآية تتضمن أن العالم يوم القيامة ثلاثة أصناف: مؤمنون هم على يمين العرش، وهنالك الجنة، وكافرون وهم على شمال العرش، وهنالك النار. والسابقون إلى الإيمان والطاعة وهم عند اللّه تعالى في جنة عدن، أو في الفردوس أعلى الجنان وهي أعلى منازل البشر في الآخرة. ذكر اللّه تعالى أصحاب الميمنة متعجبا منهم في سعادتهم، وأصحاب المشأمة متعجبا منهم في شقاوتهم، ثم ذكر السابقين مثبتا حالهم، فأخبر أنهم نهاية في العظمة والسعادة.
والقول في يمين العرش وشماله أمر تقديري، كالقول في يمين الكهف وشماله في آية: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ} [الكهف: 18/ 17] بأن تقدر باب الكهف بمثابة وجه إنسان، فإن الشمس تجيء منه أول النهار عن يمين، وآخره عن شمال.
والسابقون: هم الذين سبقت لهم السعادة، وكانت أعمالهم في الدنيا سبقا إلى أعمال البر وإلى ترك المعاصي.
أخرج الإمام أحمد عن عائشة رضي اللّه عنها، عن النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال: «أتدرون من السابقون إلى ظلّ اللّه يوم القيامة؟ قالوا: اللّه ورسوله أعلم، قال: الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوا بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم».
نعيم السابقين المقرّبين:
السابقون السابقون: هم الذين سبقوا في الدنيا إلى أعمال البر وإلى ترك المعاصي، وهم المقرّبون عند اللّه في أعلى منازل البشر في الآخرة، كما تقدم، وهؤلاء الصفوة المتميزة العليا من أهل الجنة، ومن مختلف الأمم إلى يوم القيامة، يتمتعون بأكمل أنواع النعيم المادي والمعنوي في الآخرة، وقد ذكر اللّه تعالى ألوان نعيمهم في الآيات الآتية من سورة الواقعة:


{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)} [الواقعة: 56/ 13- 26].
السابقون المقرّبون: جماعة كثيرة لا يحصى عددهم، من الأمم، وهم من الأولين أكثر من الآخرين الذين عبّر عنهم بالقليل، والأولون: هم في رأي مكي وغيره الأنبياء الذين كانوا في صدر الدنيا أكثر عددا. أو هم في رأي الحسن وغيره السابقون من الأمم، والسابقون من هذه الأمة (أتباع النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم).
أخرج أحمد وابن المنذر، وابن أبي حاتم بسند فيه من لا يعرف عن أبي هريرة قال: لما نزلت: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)} شقّ ذلك على المسلمين، فنزلت: {وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)}.
ولا أرى تعارضا بين هذه الآيات، فهي في السابقين المقرّبين، وآية: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)} فهي في أصحاب اليمين.
وروي عن عائشة رضي اللّه عنها أنها تأوّلت أن الفريقين في أمة كل نبي: هي في الصّدر ثلة، وفي آخر الأمة قليل.
وروى سفيان الثوري عن أبان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «الثّلّتان جميعا من أمّتي».
وحال هؤلاء المقرّبين: هم في الجنة متكئون على أسرّة منسوجة بخيوط الذهب، مشبكة بالدّر والياقوت والزّبرجد، في حال التقابل، لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض، وهم في حبور وسرور، وصفاء واطمئنان.
- يدور عليهم للخدمة غلمان باقون على صفة واحدة، لا يهرمون ولا يتغيرون، ولا يبعد أن يكونوا كالحور العين مخلوقين في الجنة، للقيام بهذه الخدمة.
- يطوفون على أهل الجنة السابقين بأكواب لا عرى لها ولا خراطيم، وبأباريق لها العرى والخراطيم، وبكؤوس مترعة من خمر الجنة الجارية من الينابيع والعيون، ولا تعصر عصرا كخمر الدنيا، فهي صافية نقية من الكحول المسكر، لا تتصدّع رؤوسهم من شربها، ولا يسكرون منها، فتذهب عقولهم.
- ومعهم ما يختارونه من ثمار الفاكهة، وأنواع لحوم الطيور التي يشتهونها، مما لذّ وطاب، ومن المعلوم أن لحوم الطيور أيسر هضما وأعذب طعما.
- ولهم نساء حوريات بيض، مع شدة سواد العين، وشدة بياضها، واسعات الأعين حسانها، كأنواع اللآلى والدّرر المستورة التي لم تمسها الأيدي صفاء وبهجة، وبياضا ومتعة، وجمالا من أحسن الألوان، يفعل بهم ذلك كله، مجازاة لهم على ما أحسنوا من العمل.
- وفي الجنة لا يسمعون كلاما لاغيا لا معنى له، واللغو: الفاحش من القول، ولا كلاما فيه ما يوقع في الإثم من سبّ أو شتم أو ساقط الكلام. ولكن يسمعون أطيب الكلام، ويتبادلون فيما بينهم التحية وأكرم السّلام، كما في آية أخرى: {تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ} [إبراهيم: 14/ 23]. والمراد أن هذا النعيم ليس مصحوبا بألم، كنعيم الدنيا، وإنما هو خال من الكدر والهمّ، واللغو، والقبح. وحكمة تأخير بيان ذلك عن ذكر الجزاء، مع أنه من النّعم العظيمة: أنه من أتم النّعم، فجعله المولى من باب الزيادة والتمييز، لأنه نعمة اجتماعية تدلّ على نظافة أو طهر الوسط الاجتماعي، بعد تبيان النّعم الشخصية.
وقوله تعالى: {جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} دليل على أن هذه الرّتب والنّعم هي بحسب أعمالهم، لأنه روي أن المنازل والقسم في الجنة هي مقسّمة على قدر الأعمال. وأما دخول الجنة نفسه: فهو برحمة اللّه تبارك وتعالى وفضله، لا بعمل عامل، كما جاء في حديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه والدارمي وأحمد، ولفظ البخاري عن أبي هريرة رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «لن ينجّي أحدا منكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول اللّه؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني اللّه برحمته، سدّدوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدّلجة، والقصد القصد تبلغوا».
وفي البخاري أيضا عن عائشة رضي اللّه عنها أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «سدّدوا وقاربوا واعلموا أن لن يدخل أحدكم عمله الجنة، وأن أحب الأعمال أدومها إلى اللّه، وإن قلّ».
جزاء أصحاب اليمين:
ذكر اللّه تعالى ألوان النعيم للسابقين المقرّبين عند اللّه يوم القيامة، ثم أتبعه ببيان أصناف النعيم لأصحاب اليمين، من الفاكهة الكثيرة، والظلال، والمياه، والأنهار الجارية، والفرش المرفوعة، والحور العين العذارى في عمر واحد أو متساويات السّن: أتراب، ومحبّبات إلى أزواجهن، وهذا أنموذج إغرائي لمن اهتم بالماديات، قياسا على أحوال الدنيا التي قد تفتقد فيها هذه الأشياء لكثير من الناس، فيجدون الحلم والعوض محقّقا في الآخرة، وهذا ما نصّت عليه الآتية التالية:


{وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)} [الواقعة: 56/ 27- 40].
أخرج سعيد بن منصور في سننه والبيهقي في البعث عن عطاء ومجاهد قالا: لما سأل أهل الطائف الوادي يحمى لهم، وفيه عسل، ففعل، وهو واد معجب، فسمعوا الناس يقولون: في الجنة كذا وكذا، قالوا: يا ليت لنا في الجنة مثل هذا الوادي، فأنزل اللّه: {وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28)} الآيات. وهم أصحاب المرتبة المتوسطة، ومنهم عصاة المؤمنين بعد مجازاتهم على معصيتهم أو العفو عنهم.
المعنى: عطف اللّه تعالى في بيانه على بيان جزاء السابقين المقرّبين: ما أعدّه لأصحاب اليمين الأبرار، الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم، فإن منزلتهم دون المقرّبين، ولكن في درجة عالية في الجنة، فهم أصحاب الميمنة، وما أدراك ما هم، وأي شيء هم، وما حالهم ومآلهم؟! وهذا يشير إلى التفخيم والانتباه للتعرّف على حالهم، فجاء البيان المفصل لما أبهم من حالهم، فقال اللّه تعالى: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28)} أي يتمتعون في جنات فيها شجر يشبه شجر السّدر: وهو من العضاة له شوك، وأما سدر الجنة فهو على خلقة سدر الدنيا، له ثمر كقلال هجر، طيب الطعم والريح، ووصفه تعالى بأنه مخضود، أي مقطوع الشوك الذي لا أذى فيه.
ولهم أيضا مثل الطّلح: وهو كذلك من العضاء شجر عظيم كثير الشّوك، ولكن طلح الجنة على صفات كثيرة مباينة لحال الدنيا، ومنضود معناه: مركب ثمره، بعضه على بعض من أرضه إلى أعلاه.
أخرج البيهقي عن مجاهد قال: كانوا يعجبون بوج (واد مخصب بالطائف) وظلاله وطلحة وسدره، فأنزل اللّه: {وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)} وهم في ظلال وارفة دائمة الظّل، وحولهم ماء جار لا ينقطع، ويتناولون من أنواع الفاكهة الكثيرة ما شاؤوا، فهي لا تنقطع أبدا في وقت من الأوقات، كما تنقطع فواكه الدنيا أحيانا، ولا تمنع عمن أرادها في أي وقت، على أي صفة، أعدت لمن أرادها.
ويجلسون وينامون على فرش مرفوعة على الأسرّة، وذات رفعة، والفرش:
الأسرّة، جمع فراش: وهو ما يفترش للجلوس عليه أو النوم عليه، وقال أبو عبيدة وغيره: أراد بالفرش النّساء. والمرفوعة: معناه المرتفعة الأقدار والمنازل. ثم أشار اللّه تعالى إلى نساء أهل الجنة، والضمير في رأي قتادة عائد على الحور العين المذكورات قبل، أو إلى الفرش المرفوعة، أي النساء في رأي أبي عبيدة معمر، وإن لم يتقدم لهن ذكر، لدلالة المعنى على المقصد، كقوله تعالى: {حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ} [ص: 38/ 32].
وهؤلاء النّساء يتجدد خلقهن، فقال اللّه تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35)} أي خلقناهنّ شيئا بعد شيء، وأوجدناهنّ خلقا جديدا، من غير توالد، وجعلناهن بكارى عذارى لم يفتضهن قبلهم إنس ولا جان. وكلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا، من غير وجع، كما في حديث رواه الطبراني عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن أبكارا».
وهنّ عرب أتراب، أي متحبّبات إلى أزواجهن، عشقا لهم، من غير سابق معرفة، ومتساويات السّن والشكل والقدّ، حتى يقول الرائي: هم أتراب.
وأصحاب اليمين: هم سالف الأمم، جماعة عظيمة من الأولين، وهم مؤمنو الأمم الماضية، وجماعة من الآخرين، وهم مؤمنو هذه الأمة، أتباع النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلى يوم القيامة. ويرى ابن عطية رحمه اللّه: بل جميعهم من هذه الأمة، إلا من كان من السابقين. ورأى آخرون الفرقتين في أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم، فالتابعون بإحسان، ونحوهم هم الثّلة الأولى، وسائر الأمة ثلة أخرى في آخر الزمان.
وذكر أبو حيان في البحر المحيط أنه لا تنافي بين قوله تعالى: {وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)} وقوله قبل: {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)} لأن قوله: {مِنَ الْآخِرِينَ} هو من السابقين، وقوله: {وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)} هو في أصحاب اليمين.
ومردّ كل ذلك إلى اللّه تعالى، وتعرف الجماعات بمدى إيمانها وعملها الصالح، سواء أكانوا من الماضين أم من اللاحقين، إقامة للعدل بين الجميع.
جزاء أصحاب الشّمال:
اصطلاح الشمال دائما يدلّ على مواجهة تعبير اليمين، الأول يدلّ على الانحراف ومعارضة الفطرة، والثاني يدلّ على الاستقامة والطاعة لله تعالى. وأهل اليمين يتمتعون بألوان النعيم الأخروي، المادّي والمعنوي، النفسي والاجتماعي، وأهل الشمال يتعرضون لمختلف أنواع العذاب الأخروي، بالسّحق والإحراق، وتجدّد العذاب على الدوام، شرابهم صديد أهل النار، والماء الشديد الغليان، وطعامهم شجر الزّقوم الشديد المرار، الذي تعاف مثله الإبل في الدنيا، مع التقريع، والإهانة، والإذلال، والسخرية، كما تصور هذه الآيات:

1 | 2